كان مصطفى الذى يعانى إعاقة بذراعه اليسرى هو الابن الأصغر لأسرة تمتلك بيتا من أربعة طوابق فى ضاحية المرج، شقيقه الأكبر طبيب متزوج من أجنبية ويعيش بالخارج، وشقيقه الأوسط مهندس تزوج حديثا، الأم مديرة بهيئة النقل العام، والأب كبير فنيين بالحديد والصلب أُحيل إلى معاش مبكر.
ولأن مصطفى كان طيبا ومحبوبا من الجميع، اشترت له الأسرة سيارة صغيرة يذهب بها إلى الجامعة، لكنه آثر أن يساهم فى نفقات دراسته بالعمل ليلا على سيارته لتوصيل من يريد مقابل أجر.
وعندما خرج فى الليلة المشئومة ليعمل كعادته، التقى بشابين يريدان الذهاب إلى قريب لهما فى مدينة 6 أكتوبر. كانا عاطلين ومفلسين ويريدان العودة إلى قريتهما بمركز منفلوط ولا يمتلكان إلا عشرين جنيها، لهذا فكرا فى الذهاب إلى قريبهما لاقتراض ما يتيح لهما العودة وتسديد أجرة مصطفى.
لكنهما لم يستطيعا التعرف على عنوان قريبهما فى الليل ولم يكن معهما رقمه. فجأة ظهرت الصحراء على حافة المدينة التى تاهت فيها السيارة. ودون تخطيط مسبق قام الراكب فى المقعد الخلفى بضرب مصطفى على رأسه بزجاجة مياه غازية حتى فقد وعيه. نزل العاطلان من السيارة ووجدا حبلا فى شنطتها أوثقا به مصطفى وحملاه إلى الصحراء. لكنه استعاد وعيه وأخذ يقاوم مستصرخا أن يتركاه يعيش ويأخذا كل شىء. انهالا عليه ضربا من جديد حتى خارت قواه ووجدا حفرة عميقة ألقياه فيها.
كان يئن ويتوسل وهما يهيلان عليه الرمل حتى دفناه. سرقا هاتفه وأربعين جنيها كانت معه وفرا بالسيارة إلى الصعيد. لكن الشرطة توصلت إليهما ودلّا على مكان الجريمة حيث استُخرجت الجثة!
كانت هذه «حكاية جريمة» قرأتها فى «الشروق» يوم الجمعة 30 أبريل الماضى، ولم أستطع نسيان صورة الضحية الشاب الذى تفيض ملامحه بطيبة مؤثرة، واحتفظت بصفحة الجريدة، مقدرا أن هذه الجريمة دليل شديد الخطورة على درجة التشوه التى طالت النفس البشرية بيننا، وهى جرس إنذار من الدرجة القصوى لتغيرات جنونية التوحش فى مصر، ليس فى مجال الإجرام وحده، ولكن فى مناخ الوسط المُنتِج لهذا الإجرام، أى حياتنا المصرية كلها، التى نظل نتجاهل وحشية هوامشها، حتى نستيقظ على هول هذه الوحشية فى متن وجودنا.
لم أكد أبدأ تأملى فى جريمة صحراء أكتوبر، حتى انفجرت فى وجهى كما فى وجوهنا جميعا، مصريين، وعربا، ومسلمين، وبشرا، جريمة القتل والسحل والتمثيل بجثة المصرى محمد مسلّم المتهم بجريمة قتل بشعة راح ضحيتها عجوزان وحفيداتهما الطفلتان، فى قرية «كترمايا» بمنطقة الشوف اللبنانية، والتى تطور اسمها من السريانية «كفر مايه» وهى تعنى «قرية المياه»، فى مفارقة تؤكد أن الوحشية البشرية ليست مشروطة بعطش أو رى، فهى من كوامن الأحراش النفسية التى تنتظر مجرد الفرصة لانطلاق وحشيتها المسعورة.
لم أر جريمة الصحراء المصرية منفصلة عن جريمة قرية الماء اللبنانية، ليس فقط لأن مصريين كانا عاملا مشتركا أساسيا فيهما، لكن لأن عالمنا العربى كالأوانى المستطرقة، ما يحدث فى أحد بلدانه يدل على ما يحدث فى باقى البلدان، كما أن تجاوز الجريمتين لأقصى حدود التخيل السوداوى، يشير حتما إلى عناصر وأصول مشتركة تصنع كل هذا البؤس المروِّع، ويستلزم الكشف عنها تقصيات نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية لجريمتين بهذا الحجم من الفظاعة.
ولأن جريمة كترمايا الجماعية هى الأقرب حدوثا والأسخن حضورا، والأخطر فى تأثيراتها السلبية العابرة للأقطار والمتسللة إلى صدور الشعوب، أراها أوجب بأولوية التناول، دون أى نسيان لجريمة أكتوبر.
بداية، لابد من فضح المحاولات الآثمة لاستثمار جريمة سحل المصرى فى كترمايا لإثارة فتنة مصرية لبنانية، وهو ما سارعت إليه إسرائيل عبر إعلامها المُكمِّل لإجرام آلتها العسكرية الدموية، فربطت بين جريمة التمثيل بالقتيل المصرى وبين الأحكام التى صدرت فى القاهرة ضد لبنانيين فى قضية ما أسموه «خلية حزب الله»، وهو افتراء مفضوح الغايات، فى وقت تهدد فيه إسرائيل كلا من لبنان وسورية، وتسعى لالتهام القدس وتخريب المسجد الأقصى وإحراق غزة من جديد.
قرية كترمايا اللبنانية ليست قرية شيعية كما يوحى البث الإسرائيلى، ولا حتى مسيحية كما يدّعى المتعصبون على شبكة الإنترنت، بل أغلبية سكانها من المسلمين السنة كما المصريين، وممثلها فى البرلمان اللبنانى تابع لزمرة 14 آزار التى يقودها سعد الحريرى خديج «الاعتدال العربى»، والمرحب به كثيرا فى شرم الشيخ، والرياض. فالجريمة أبعد ما تكون عن الطائفية والمذهبية المطلوب إسرائيليا وظلاميا تأجيج صراعاتهما فى عالمنا العربى.
والجريمة ليست شعوبية أيضا، وإن كان بها مسحة التحفز والريبة تجاه الغريب، وهى مسحة نفسية عامة لدى كل الشعوب تجاه الغرباء، ولها جذور عميقة ومشتركة بين الإنسان وحتى الحيوان، وترتبط بغريزة المنافسة على الغذاء والمأوى والتكاثر، كما ترتبط بالحرص الغريزى على حماية خصوصية الحيز الشخصى ومنطقة التواجد والمعاش.
ثم إن كل لغو مثار عن أن الجريمة تحط من كرامة مصر والمصريين، هو تغطية على حقيقة أن الإهانة بدأت وتبدأ من هنا، من الداخل المصرى نفسه، حيث المناخ الفاسد يدفع بمئات آلاف المصريين الشباب، للبحث عن مكان آخر فى العالم غير وطنهم الذى بسبب تراكمات سياسية آثمة، لم يعد يوفر لهم فرصة لحياة كريمة أو طموح مشروع، فنفروا إلى هجرة شرعية أو غير شرعية فى ظاهرة لم تشهدها مصر من قبل، حيث تحصد زوارق الموت الصدئة أرواح أفواج منهم تطويهم أمواج المتوسط بشكل يكاد يكون يوميا، مأساة لا تشبه فى غرابة مأساويتها إلا موجات انتحار الحيتان التى تهرب من أخطار تهدد حياتها فى المياه، فتموت على الشواطئ مختنقة لأن أوزانها الهائلة تعيق حركة أضلاعها، فتنكتم الأنفاس!
وبينما تجد الحيتان المنكوبة بين أنصار الحفاظ على البيئة وجماعات الرفق بالحيوان من يسارع إلى إنقاذها وإعادتها إلى الماء، لا يجد مهاجرو الزوارق الغارقة من المصريين من يمد لهم ولو خشبة للنجاة، وإذا وصلوا إلى الشاطئ الآخر يعيشون كالأشباح، مهددين بالضبط والترحيل إلى بؤسهم الذى هربوا منه، أو تستوعبهم معسكرات إيواء مؤقتة ثبت أن معظمها كان حظائر للماشية والخنازير فى شمال المتوسط!
ثم إنهم فى البلدان العربية، خاصة من فئة المتعطلين والعمالة غير الماهرة، يتحولون إلى أعباء اجتماعية ونفسية وجنائية أحيانا على المجتمعات التى يتواجدون فيها، ولا بد أن ضحية كترمايا المصرى كان واحدا من هؤلاء. وإن كان هذا لا يُسقط حقه فى إدانة وتجريم البشاعة التى لحقت به.
ما حدث فى «كترمايا» يتعلق بحالة الانحطاط العربى الذى يشملنا جميعا، وهو انحطاط نفسى وروحى مرتبط بالانحطاط السياسى والاجتماعى الذى يهمين على عالمنا العربى إلا قليلا، قليلا جدا، وهو أمر يتجاوز كثيرا حدود غريزة الثأر التى عادت باندفاع محموم فى ظل عدالة بطيئة غير ناجزة، وألاعيب قانونية لمحامى الشياطين، وفساد لا يمكن استبعاد وصوله إلى منصات القضاء، لكن ما حدث للمواطن المصرى لم يكن مجرد قتل بزعم القصاص، فقد انتُزع من أيدى الشرطة التى أتت به إلى القرية لاستكمال تحرياتها فى مسرح الجريمة، ثم نُقل إلى المستشفى شبه ميت بعد الاعتداء الجماعى عليه، وتكرر انتزاعه من المستشفى وتمت تعريته إلا من سرواله الداخلى وجواربه، وسُحل بسيارة عبر طرقات القرية المشتعلة بهتافات الانتقام والزغاريد، ثم علقوا الجثة مسلوخة ودامية ومنحورة فى عمود كهرباء، وحولها كانت فلاشات الهواتف النقالة تلمع لتصوير المشهد الخالد، مع تهليلات النصر «الله أكبر. الله أكبر»!
لم يكن هذا ثأرا ولا قصاصا، لكنه انحطاط نفسى بالغ الاتضاع، وخطير الدلالة، ولا يمكن استيعابه إلا فى حضيض مصطلح شاع فى علم النفس الجنائى، هو: البهيمة البشرية human beast، وهو مصطلح ينطبق أيضا وقطعا على قاتلى مصطفى فى صحراء أكتوبر دفنا وهو حى.
الظاهرة خطيرة، ولابد أن فى الثنايا خبايا .. تستحق البحث.
--------------------------------
منقول .. كتبها .. محمد المخزنجي
ولأن مصطفى كان طيبا ومحبوبا من الجميع، اشترت له الأسرة سيارة صغيرة يذهب بها إلى الجامعة، لكنه آثر أن يساهم فى نفقات دراسته بالعمل ليلا على سيارته لتوصيل من يريد مقابل أجر.
وعندما خرج فى الليلة المشئومة ليعمل كعادته، التقى بشابين يريدان الذهاب إلى قريب لهما فى مدينة 6 أكتوبر. كانا عاطلين ومفلسين ويريدان العودة إلى قريتهما بمركز منفلوط ولا يمتلكان إلا عشرين جنيها، لهذا فكرا فى الذهاب إلى قريبهما لاقتراض ما يتيح لهما العودة وتسديد أجرة مصطفى.
لكنهما لم يستطيعا التعرف على عنوان قريبهما فى الليل ولم يكن معهما رقمه. فجأة ظهرت الصحراء على حافة المدينة التى تاهت فيها السيارة. ودون تخطيط مسبق قام الراكب فى المقعد الخلفى بضرب مصطفى على رأسه بزجاجة مياه غازية حتى فقد وعيه. نزل العاطلان من السيارة ووجدا حبلا فى شنطتها أوثقا به مصطفى وحملاه إلى الصحراء. لكنه استعاد وعيه وأخذ يقاوم مستصرخا أن يتركاه يعيش ويأخذا كل شىء. انهالا عليه ضربا من جديد حتى خارت قواه ووجدا حفرة عميقة ألقياه فيها.
كان يئن ويتوسل وهما يهيلان عليه الرمل حتى دفناه. سرقا هاتفه وأربعين جنيها كانت معه وفرا بالسيارة إلى الصعيد. لكن الشرطة توصلت إليهما ودلّا على مكان الجريمة حيث استُخرجت الجثة!
كانت هذه «حكاية جريمة» قرأتها فى «الشروق» يوم الجمعة 30 أبريل الماضى، ولم أستطع نسيان صورة الضحية الشاب الذى تفيض ملامحه بطيبة مؤثرة، واحتفظت بصفحة الجريدة، مقدرا أن هذه الجريمة دليل شديد الخطورة على درجة التشوه التى طالت النفس البشرية بيننا، وهى جرس إنذار من الدرجة القصوى لتغيرات جنونية التوحش فى مصر، ليس فى مجال الإجرام وحده، ولكن فى مناخ الوسط المُنتِج لهذا الإجرام، أى حياتنا المصرية كلها، التى نظل نتجاهل وحشية هوامشها، حتى نستيقظ على هول هذه الوحشية فى متن وجودنا.
لم أكد أبدأ تأملى فى جريمة صحراء أكتوبر، حتى انفجرت فى وجهى كما فى وجوهنا جميعا، مصريين، وعربا، ومسلمين، وبشرا، جريمة القتل والسحل والتمثيل بجثة المصرى محمد مسلّم المتهم بجريمة قتل بشعة راح ضحيتها عجوزان وحفيداتهما الطفلتان، فى قرية «كترمايا» بمنطقة الشوف اللبنانية، والتى تطور اسمها من السريانية «كفر مايه» وهى تعنى «قرية المياه»، فى مفارقة تؤكد أن الوحشية البشرية ليست مشروطة بعطش أو رى، فهى من كوامن الأحراش النفسية التى تنتظر مجرد الفرصة لانطلاق وحشيتها المسعورة.
لم أر جريمة الصحراء المصرية منفصلة عن جريمة قرية الماء اللبنانية، ليس فقط لأن مصريين كانا عاملا مشتركا أساسيا فيهما، لكن لأن عالمنا العربى كالأوانى المستطرقة، ما يحدث فى أحد بلدانه يدل على ما يحدث فى باقى البلدان، كما أن تجاوز الجريمتين لأقصى حدود التخيل السوداوى، يشير حتما إلى عناصر وأصول مشتركة تصنع كل هذا البؤس المروِّع، ويستلزم الكشف عنها تقصيات نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية لجريمتين بهذا الحجم من الفظاعة.
ولأن جريمة كترمايا الجماعية هى الأقرب حدوثا والأسخن حضورا، والأخطر فى تأثيراتها السلبية العابرة للأقطار والمتسللة إلى صدور الشعوب، أراها أوجب بأولوية التناول، دون أى نسيان لجريمة أكتوبر.
بداية، لابد من فضح المحاولات الآثمة لاستثمار جريمة سحل المصرى فى كترمايا لإثارة فتنة مصرية لبنانية، وهو ما سارعت إليه إسرائيل عبر إعلامها المُكمِّل لإجرام آلتها العسكرية الدموية، فربطت بين جريمة التمثيل بالقتيل المصرى وبين الأحكام التى صدرت فى القاهرة ضد لبنانيين فى قضية ما أسموه «خلية حزب الله»، وهو افتراء مفضوح الغايات، فى وقت تهدد فيه إسرائيل كلا من لبنان وسورية، وتسعى لالتهام القدس وتخريب المسجد الأقصى وإحراق غزة من جديد.
قرية كترمايا اللبنانية ليست قرية شيعية كما يوحى البث الإسرائيلى، ولا حتى مسيحية كما يدّعى المتعصبون على شبكة الإنترنت، بل أغلبية سكانها من المسلمين السنة كما المصريين، وممثلها فى البرلمان اللبنانى تابع لزمرة 14 آزار التى يقودها سعد الحريرى خديج «الاعتدال العربى»، والمرحب به كثيرا فى شرم الشيخ، والرياض. فالجريمة أبعد ما تكون عن الطائفية والمذهبية المطلوب إسرائيليا وظلاميا تأجيج صراعاتهما فى عالمنا العربى.
والجريمة ليست شعوبية أيضا، وإن كان بها مسحة التحفز والريبة تجاه الغريب، وهى مسحة نفسية عامة لدى كل الشعوب تجاه الغرباء، ولها جذور عميقة ومشتركة بين الإنسان وحتى الحيوان، وترتبط بغريزة المنافسة على الغذاء والمأوى والتكاثر، كما ترتبط بالحرص الغريزى على حماية خصوصية الحيز الشخصى ومنطقة التواجد والمعاش.
ثم إن كل لغو مثار عن أن الجريمة تحط من كرامة مصر والمصريين، هو تغطية على حقيقة أن الإهانة بدأت وتبدأ من هنا، من الداخل المصرى نفسه، حيث المناخ الفاسد يدفع بمئات آلاف المصريين الشباب، للبحث عن مكان آخر فى العالم غير وطنهم الذى بسبب تراكمات سياسية آثمة، لم يعد يوفر لهم فرصة لحياة كريمة أو طموح مشروع، فنفروا إلى هجرة شرعية أو غير شرعية فى ظاهرة لم تشهدها مصر من قبل، حيث تحصد زوارق الموت الصدئة أرواح أفواج منهم تطويهم أمواج المتوسط بشكل يكاد يكون يوميا، مأساة لا تشبه فى غرابة مأساويتها إلا موجات انتحار الحيتان التى تهرب من أخطار تهدد حياتها فى المياه، فتموت على الشواطئ مختنقة لأن أوزانها الهائلة تعيق حركة أضلاعها، فتنكتم الأنفاس!
وبينما تجد الحيتان المنكوبة بين أنصار الحفاظ على البيئة وجماعات الرفق بالحيوان من يسارع إلى إنقاذها وإعادتها إلى الماء، لا يجد مهاجرو الزوارق الغارقة من المصريين من يمد لهم ولو خشبة للنجاة، وإذا وصلوا إلى الشاطئ الآخر يعيشون كالأشباح، مهددين بالضبط والترحيل إلى بؤسهم الذى هربوا منه، أو تستوعبهم معسكرات إيواء مؤقتة ثبت أن معظمها كان حظائر للماشية والخنازير فى شمال المتوسط!
ثم إنهم فى البلدان العربية، خاصة من فئة المتعطلين والعمالة غير الماهرة، يتحولون إلى أعباء اجتماعية ونفسية وجنائية أحيانا على المجتمعات التى يتواجدون فيها، ولا بد أن ضحية كترمايا المصرى كان واحدا من هؤلاء. وإن كان هذا لا يُسقط حقه فى إدانة وتجريم البشاعة التى لحقت به.
ما حدث فى «كترمايا» يتعلق بحالة الانحطاط العربى الذى يشملنا جميعا، وهو انحطاط نفسى وروحى مرتبط بالانحطاط السياسى والاجتماعى الذى يهمين على عالمنا العربى إلا قليلا، قليلا جدا، وهو أمر يتجاوز كثيرا حدود غريزة الثأر التى عادت باندفاع محموم فى ظل عدالة بطيئة غير ناجزة، وألاعيب قانونية لمحامى الشياطين، وفساد لا يمكن استبعاد وصوله إلى منصات القضاء، لكن ما حدث للمواطن المصرى لم يكن مجرد قتل بزعم القصاص، فقد انتُزع من أيدى الشرطة التى أتت به إلى القرية لاستكمال تحرياتها فى مسرح الجريمة، ثم نُقل إلى المستشفى شبه ميت بعد الاعتداء الجماعى عليه، وتكرر انتزاعه من المستشفى وتمت تعريته إلا من سرواله الداخلى وجواربه، وسُحل بسيارة عبر طرقات القرية المشتعلة بهتافات الانتقام والزغاريد، ثم علقوا الجثة مسلوخة ودامية ومنحورة فى عمود كهرباء، وحولها كانت فلاشات الهواتف النقالة تلمع لتصوير المشهد الخالد، مع تهليلات النصر «الله أكبر. الله أكبر»!
لم يكن هذا ثأرا ولا قصاصا، لكنه انحطاط نفسى بالغ الاتضاع، وخطير الدلالة، ولا يمكن استيعابه إلا فى حضيض مصطلح شاع فى علم النفس الجنائى، هو: البهيمة البشرية human beast، وهو مصطلح ينطبق أيضا وقطعا على قاتلى مصطفى فى صحراء أكتوبر دفنا وهو حى.
الظاهرة خطيرة، ولابد أن فى الثنايا خبايا .. تستحق البحث.
--------------------------------
منقول .. كتبها .. محمد المخزنجي
No comments:
Post a Comment