Showing posts with label محمد المخزنجي. Show all posts
Showing posts with label محمد المخزنجي. Show all posts

27 November 2010

زوموا .. زوموا


من المؤكد أن الشخص المجهول الذي كان أول من طرح الفكرة لم تخطر على باله أبداً النتائج المدهشة التي أحدثتها ,ولابد أن الفكرة تبلورت عنده مع تبلور حقيقة واضحة وضوح الشمس الحارة أمام الجميع : إن ديناصورات الحكم المعتّق لن يتركوا كراسيهم أبداً إلا إلى القبر , قبرهم أو قبر البلاد .



فبعد ثلث قرن من الاستفراد بالأرض والناس تراكمت ملفاتهم السوداء التي يرعبهم أن يذهبوا عن الحكم ويأتي بعدهم من يفتحها . لم يعد هناك شكٌ في أنهم قرروا البقاء حتى الموت . والموت لكل من يحاول إزاحتهم عن كراسيهم .معهم القوة والأموال والأبواق والبلطجة وأصحاب المنافع والمغانم وحيل الأفاقين التي لا تنتهي . وحتى يسبغوا شرعية زائفة زائفة على استمرارهم أمام المراقبة الدولية اصطنعوا شروطاً فاسدة عبر استفتاء كاذب لإجراء انتخابات تبدوا حرة أمام العالم بينما هي مزيفة من جذورها لأنها لا تسمح إلا بوجود منافسين هزليين لمواجهتهم ثم إنهم أظهروا أنيابهم ومخالبهم وبذاءاتهم لكل من جرؤ على الاعتراض على الانتخابات المهزلة التي اقترب موعدها ولعل هذا ما جعل الفكرة تخرج من الرأس أو الرؤوس العجيبة التي ابتدعتها .



في صباح باكر من صباحات الصيف الرطبة الساخنة ظهرت الكلمة على بعض الحيطان وأعمدة النور . مكتوبة بالطباشير بخط بسيط مرتبك يكاد لا يلفت نظر أحد. كلمة واحدة : " زوموا " . وفي الصباح الباكر التالي ازدار انتشار الكلمة على الحيطان بخط أكبر وبألوان عديدة وضح أنها ببخاخات الطلء سريع الجفاف : زوموا زوموا . . زوموا . . زوموا

لفتت الكلمة أنظار الناس وبدأوا يتساءلون باستغراب عن معنى ذلك ! وجاءت الإجابة في الأيام التالية في رسائل مختصرة على شاشات مئات الهواتف النقالة :" عبروا عن اعتراضكم يوم الانتخابات بأن تزوموا " ثم ظهرت على بعض مواقع الانترنت وفي رسائل البريد الإلكتروني التي يصعب تحديد مصادرها نداءات مستفيضة تحت عنوان " زوموا " تطالب المعترضين على تلك الانتخابات الهزلية الملفقة بأن يزوموا . . مجرد أن يزوموا . . يعلنون رفضهم بطريقة لن تكلفهم شيئاً ولن تعرضهم لأي خطر من السلطات أو أتباعها من البلطجية . . فالزومان لا يتطلب حتى أن يفتح الإنسان فمه فتحة صغيرة . . إنه مجرد صوت يحدثه الإنسان وفمه مغلق , بل يمكنه إحداثه وهو يرسم على وجهه ملامح ابتسامة أو استكانة أو جدية أو لامبالاة . صوت ممدود يتذبذب في الحلق ويتردد عبر الجمجمة والعنق وينتقل إلى الهواء وينتشر " م م م م م م م م م م . . أو ن ن ن ن ن ن ن ن . بأي صوت زوموا . . زوموا ولا تخافوا . زوموا في الساعة الواحدة ظهر ذلك اليوم المنكود . فلا يُعقل أن يمدوا أياديهم الشرسة ليضبطوا ذبذبات الزومان في أعناقكم أو رؤوسكم وإن فعلوا فيكفي أن تسكتوا عن الزومان حتى تبتعد أصابعهم الوسخة عنكم لتعاودوا الزومان . " زوموا " .



زوموا …



انتشرت الكلمة على امتداد مليون كيلو متر ربع هي مساحة البلاد من البحر إلى النهر ومن النهر إلى الصحراء . شاعت بين ثمانين مليون نسمة هم مجمل سكان البلاد تبعاً لآخر الإحصاءات الرسمية . صارت الكلمة مفعمة بالجد والضحك واللعب والإثارة والترقب المدهش . أخذ الأولاد يكتبونها في قصاصات وينثرونها خلسة من النوافذ والشرفات . وصار الناس يتبادلونها همساً باسماً أو جهراً ضاحكاً عندما يلتقون أو وهم يفترقون . وكأنها صارت بديلاً لكلمات السلام والوداع . بل صارت دندنات في أغنيات عابثة تنغرس فيها الكلمة بدلاً من بعض كلمات الأغنية الأصلية . مثل : " زوموا زوموا زوموا / دا الفيل مربوط من خرطومو " .



لكن اقتراب يوم الانتخابات كان يزيد من شعور الناس بتوتر مكتوم وإثارة متخوفة .

أتت الساعة الواحدة ظهر يوم الانتخابات . أتت في صمت مطبق يمكن أن تسمع فيه صوت الأنفاس في الصدور . كان واضحاً ان البلاد كلها تصيخ أسماعها . . حتى أفراد قوات الأمن الذين انتشروا بكثافة في الشوارع والميادين ومداخل المدن وأطراف الجسور بزيهم الأسود المقبض وهراواتهم المطاطية الثقيلة كانوا يصيخون . أما البلطجية وأرباب السوابق الذين اعتاد ديناصورات الحكم أن يستعينوا بهم لردع وترويع كل من يجرؤ على إعلان اعتراضه فلم يظهر عليهم أدنى اهتمام بالأمر . ولم يكن أفراد المراقبة الدولية لحرية الانتخابات مدركين لهذا الصمت المريب الذي ظنوه من طبائع الأمور , سجلوا في دفاتر ملاحظاتهم أن الإقبال ضئيل للغاية فلم تزد نسبة المترددين على مكاتب الاقتراع التي زاروها عن ربع في المائة حتى منتصف النهار " لكن الإدلاء بالأصوات كان يتم في هدوء شديد ودون مخالفات تُذكر " .



وضح أن معظم الناس لم يغادروا بيوتهم . وكان كثيرون منهم يطلون من الشرفات والنوافذ في ترقب هاديء أقرب إلى الوداعة . ثم . . بدأ الصوت يولد من غياهب الصمت في تمام الساعة الواحدة وثلاث دقائق على وجه التحديد . صوت زومان غائم النبرات , زومان خافت وخفي أخذ يتضح ويشتد في نحو الواحدة وخمس دقائق . وفي الساعة الواحدة وعشر دقائق انفجرت الحياة التي كانت ساكنة في العاصمة . . في البلاد كلها . .. تضج بالزومان . .



في العاصمة التي يسكنها خمسة وعشرون مليوناً من البشر تطورت تفاعلات الزومان بشكل مذهل فالحركة توقفت تماماً . سكنت السيارات القليلة في الطرقات ونزل راكبوها يتابعوت كتلة الزومان الهائلة المنبعثة من كل مكان ولا مكان . عشرون مليونا كانوا يزومون في العاصمة وحدها . عشرون مليوناً على الأقل بعد استبعاد الرُضّع والصم والبكم والمحتضرين وديناصورات الحكم قطعاً وأذنابهم , وكان أفراد الأمن والضباط الصغار الذين حشدتهم أوامر الديناصورات في الشوارع منذ الفجر يبتسمون في شماتة واضحة . بل كان أغلبهم ينخرط سراً في الزومان . اما البلطجية وأرباب السوابق الذين تمت برمجتهم لمهمة واحدة هي الترويع الجسدي للمعارضة فلم يفهموا ما يحدث , بل رأوا في هذا الزومان الجماعي لعبة طريفة لم يفتهم أن يدخلوا فيها على طريقتهم فانفتحت أفواههم مع أذرعهم في جعير طويل سرعان ما تم بتره . هاج فيهم البلطجية الأكبر ذوو البدلات الكاملة والنظارات وأربطة العنق . أمروهم بعصبية أن يتوقفوا عن هذا الجعير فوراً لأنهم حمير لا يفهمون شيئاً . هم فقط والأكبر منهم والأكبر من الأكبر منهم كانوا يفهمون معنى زومان مدينة كاملة . . بلد بحاله . . في وجود مراقبين دوليين و محطات تيلفزيون عالمية و مراسلين أجانب لكن الظاهرة تجاوزت فهمهم وحدود توقعاتهم وتوقعات الجميع عندما بدأت الظاهرة تتجاوز نفسها بشكل مذهل . . شكل يتجلى في مشاهد مذهلة أمام العيون . . .



في الساعة الواحدة وخمس وعشرين دقيقة كانت العاصمة المشتعلة بزومان الملايين تبدو كأنها دينامو جبار لتوليد موجات كاسحة من ذبذبات غير مرئية . وبدأ بعض أفراد الأمن والضباط الصغار الواقفون في عراء الشوارع يصابون بإعياء غامض ودوار ونوبات قيء جماعي . وكان المارة العاديون يهرولون مترنحين حاشرين أطراف سباباتهم في ثقوب آذانهم . وهناك من كانوا يهوون إلى الأرض ويتمرغون في ألم وذعر . لم تستمر ظاهرة الأعراض الجسدية الغريبة هذه غير خمس أو سبع دقائق تلاشت بعدها تماماً ثم بدأت ظاهرة خارقة تتجلى واضحة أمام الأبصار المذهولة : كانت الألوان تزول . . ألوان الملابس . . السيارات . . أعمدة النور . . الحيطان المدهونة . . لافتات التأييد لاستمرار السلطة . . يافطات المحال والدكاكين . كل الألوان المضافة كانت تختفي ولا تبقى غير تلك التي في أصل الأشياء . و كأن ذبذبات زومان الملايين صارت عاصفة من نوع غريب تجتاح كل شيء وتزيل المضاف إليه من ألوان . قيل إنها موجات فوق صوتية جاءت نتاجاً ثانوياً لذبذبات صوت الزومان الأصلي وهو يعبر اللحم والعظام وينتقل إلى الهواء . وقيل بل موجات تحت صوتية تولدت بنفس الطريقة غير المقصودة . وأخذ الناس يذكرون ما يعرفونه في الواقع أو قرؤوا عنه أو سمعوه أو رأوه في برامج التلفزيون .. مدافع الموجات الصوتية التي تشتت التجمعات أو تقتل بلا جراح . والغسالات التي أعلن اليابانيون عن اختراعها وهي تنظف بالموجات الصوتية وحدها دون ماء ولا مسحوق غسيل . والأجسام التي يمكن رفعها في الهواء وتحريكها في أي اتجاه بطاقة الموجات الصوتية وحدها . ثم هناك الموجات الصوتية التي تكشف الجنين في بطن أمه وتلك التي تحطم الحصوات في الكلى . أما ما تولّد عن الزومان من موجات تحت صوتية أو فوق صوتية أو خليط من الاثنين فهو اختلاف في الآراء لم يصمد أمام حقيقة واحدة مرئية واضحة كانت تتجلى أمام العيون المبهورة " كل الألوان تزول وتعود الأشياء إلى طبيعتها الأصلية .. الأقمشة تتحول إلى بيضاء رمادية .. أعمدة النور بنية بلون صدأ الحديد . اللافتات عارية بلا كلمات .. يافطات المحال بلون الأبلكاش أو القصدير .. والحيطان بلون الأسمنت والرمل أو الطوب إلا إذا كانت مكسوة بالرخام أو الجرانيت أو الحجر .

غلب اللون الرمادي على كل شيء فلم يعد هناك لون واضح البقاء إلا في خضرة الشجر وزرقة السماء الفسيحة وما تعكسه على صفحة النهر . مشهد أخذ يتسع ويتأكد ويجعل العيون تجحظ والأفواه تنفتح . لكن الزومان لم ينقطع كأنما بقوة الدفع الذاتي أو بفقدان الملايين إمكانية السيطرة على أحبالهم الصوتية التي استمرأت الاهتزاز . وكان ديناصورات الحكم المعتق يتداعون لاجتماع عاجل في قصر القيادة .

لم تسلم قلعة الحكم من مصير كل شيء في العاصمة في تلك الساعة الخارقة من ساعات النهار . زحف اللون الرمادي زحفاً كاسحاً على ثياب جنود وضباط الحرس القيادي . الزي الكحلي المهيب لم يعد كحلياً والبيريهات الحمراء بلون الدم لم تعد حمراء . بهتت ألوان الخيوط الحريرية اللامعة التي كانت تطرز البادجات على الصدور والأكمام . واستحالت ذهبية النجوم و النسور والسيوف المتقاطعة لرتب الضباط إلى لون الصفيح الكالح . وكانت هناك صعوبة في التعرف على سيارات المرسيدس الرسمية التي أخذت تتوافد بسرعة . تلاشى دهانها الأسود اللامع وصارت مطفأة بلون الصاج القاتم . أما الديناصورات الذين أخذوا يترجلون من السيارات فقد بدوا أثقل وأسمج وأكثر ترهلاً بأجسامهم المتورمة أو المتيبسة في البدل والقمصان وربطات العنق التي وحد بينها اللون الرمادي المغبر بعد زوال ألوانها وأفدح ما أصاب هؤلاء الديناصورات من تغيير كان انكشاف رؤوسهم وحواجبهم وشواربهم عن شعث أبيض لا جلال فيه بعد تبخر صبغات الشعر التي كانوا يستوردونها من أغلى الأنواع في العالم . بدوا أشباحاً مسنة غليظة تخرج من المجهول وهي تصعد الدرج الرخامي الفسيح باتجاه قاعة اجتماعات القيادة . وكان جنود الحرس والضباط الصغار الذين لم يفقدوا غير ألوان ملابسهم يبذلون جهداً كبيراً لكتم ضحكاتهم لكن قهقهات ضاغطة لم تستطع إلا أن تنفلت . ولم يملك بعض الديناصورات الذين انفجرت في وجوههم القهقهات إلا أن ينظروا بذعر إلى الوجوه الشابة التي تضحك . ذعر لم يعرفوه أبداً لأنهم كانوا هم من يفرضه على الآخرين منذ نصف ساعة .. لا أكثر . التأم مجلس الديناصورات الحاكم في القاعة المدججة بأحدث موانع التنصت والمواد العازلة للصوت والمضادة للقذائف . لكن الزومان المستمر اشتعاله في البلاد كان يتسلل إليهم وإن بدرجة أقل . تهالكوا بشعورهم البيضاء المطفأة على رؤوسهم وفوق حواجبهم وتحت أنوفهم في المقاعد التي زالت ألوانها حول المائدة المستديرة التي كانت مشهداً يومياً من مشاهد السلطة الراسخة على شاشات التيلفزيون الرسمي والجرائد التابعة . لكنها هي أيضاً تهالكت بزوال طلاء الجليز العسلي اللامع الفاخر عن سطحها بدت عارية بلون الخشب العاري بينما تنهال على محيطها مرافق وسواعد وأكف الديناصورات الشائخة .



كانوا يترامقون في استغراب وكره دفين . كل منهم لا يرى أمامه إلا حفنة من عواجيز أوغاد يعرف خباياهم و رزاياهم ويتناسى نفسه . كل منهم لا يرى فيمن يرمقه غير شيخ آثم لم يكف عن التصابي وهو يلتهم حقوقاً ليست له ويبتذل سلطات لم يصنها ويخون أمانات لم يحفظها . واندهش بعضهم وهو يكتشف تغير لون عيون البعض الذين لابد أنهم كانوا يركبون عدسات ملونة انمحت ألوانها . اختفت الحمرة التي كانت تضج في وجوه البعض منهم ولابد أنها كانت بتأثير مكياج ثابت أو مؤقت . ويبدو أن موجات الصوت التي أزالت الألوان لم تكتف بإزالة صبغات شعرهم وحمرة مكياجهم بل حركت حشوات البوتكس المحقونة في وجوههم لإخفاء الغضون والتجاعيد فصارت الحشوات كلاكيع وعادت التجاعيد والغضون وإن بتنافر هزلي . كل منهم كان يرى في الآخر كذاباً ويبرر تاريخ كذبه الشخصي بضرورة مجاراة الكذب العام الذي صنعه الآخرون . يستشعرون في شيخوختهم التي انكشفت فجأة أنهم تورطوا في مستنقع . ويشعر كل منهم بأن الآخرين ورطوه في ذلك وما هو إلا حمل غررت به الذئاب .

نصف ساعة مرت في القاعة الرمادية وتحت السقف المتذبذب بزومان الملايين ولم ينطق أحدهم بكلمة . كان بعضهم يفتح فمه ليتفوه بشيء لكن فمته المفتوح يظل يظل معلقاً في صمته الفارغ قبل أن يعود إلى الانغلاق . ويبدو أن قادة الحرس الذين كان مسموحاً لهم بدخول القاعة والخروج منها نقلوا إلى زملائهم في الخارج ما يحدث في الداخل . أخذت نوافذ القاعة تمتليء بالوجوه الشابة المطلة من وراء الزجاج المانع للصوت والمضاد للرصاص . كانوا يتأملون سكون الديناصورات التي وطأها الشيب بغتة وأصابها الخرس والجمود . ثم بدا أن هذه الوجوه الشابة في الخارج تضحك . بل تقهقه لأن صوت قهقهاتها زاد وفاض والتف ودار ليتسلل إلى داخل القاعة من ثقوب مفاتيح الأبواب و ثغرات نوافذ التهوية . قهقهات عارمة من صدور قوية مدربة على الفتك راحت تغمر حفنة الديناصورات الذين تولاهم الرعب . أخذت عيون الديناصورات الكليلة تتأرجح في محاجرها وكل منهم يلوذ بأطلال الآخرين وهو يدرك يقيناً أن لا فائدة . . . لا فائدة .



لا أحد يعرف متى توقف الزومان بالضبط لأنه تواصل خلال الليل وإن في خفوت . ولا أحد يعرف كيف نامت البلاد هذه الليلة . لكن الناس استيقظوا من نومهم المرهق مبكرين . كأنما أيقظهم منبه داخلي ملأه الفضول لمعرفة ماذا حدث وماذا سيحدث .

اختفى ديناصورات الحكم بشكل غامض . لم يُعثر لأي منهم على أثر في صباح البلاد التي استيقظت على عالم جديد لا ألوان فيه غير أخضر الشجر وأزرق السماء . وكان لابد من تلوين الحياة من جديد … نشط النقاشون والخطاطون والرسامون والصباغون في كل الأماكن . كانوا يعيدون إنطاق الواجهات والسجاجيد وفرش البيوت والسيارات ولعب الأطفال والملابس .. وعلم البلاد . . بألوان جديدة .





- - - - -
كتبها الأديب الرائع محمد المخزنجي

06 May 2010

صناعة البهيمة البشرية


كان مصطفى الذى يعانى إعاقة بذراعه اليسرى هو الابن الأصغر لأسرة تمتلك بيتا من أربعة طوابق فى ضاحية المرج، شقيقه الأكبر طبيب متزوج من أجنبية ويعيش بالخارج، وشقيقه الأوسط مهندس تزوج حديثا، الأم مديرة بهيئة النقل العام، والأب كبير فنيين بالحديد والصلب أُحيل إلى معاش مبكر.

ولأن مصطفى كان طيبا ومحبوبا من الجميع، اشترت له الأسرة سيارة صغيرة يذهب بها إلى الجامعة، لكنه آثر أن يساهم فى نفقات دراسته بالعمل ليلا على سيارته لتوصيل من يريد مقابل أجر.

وعندما خرج فى الليلة المشئومة ليعمل كعادته، التقى بشابين يريدان الذهاب إلى قريب لهما فى مدينة 6 أكتوبر. كانا عاطلين ومفلسين ويريدان العودة إلى قريتهما بمركز منفلوط ولا يمتلكان إلا عشرين جنيها، لهذا فكرا فى الذهاب إلى قريبهما لاقتراض ما يتيح لهما العودة وتسديد أجرة مصطفى.

لكنهما لم يستطيعا التعرف على عنوان قريبهما فى الليل ولم يكن معهما رقمه. فجأة ظهرت الصحراء على حافة المدينة التى تاهت فيها السيارة. ودون تخطيط مسبق قام الراكب فى المقعد الخلفى بضرب مصطفى على رأسه بزجاجة مياه غازية حتى فقد وعيه. نزل العاطلان من السيارة ووجدا حبلا فى شنطتها أوثقا به مصطفى وحملاه إلى الصحراء. لكنه استعاد وعيه وأخذ يقاوم مستصرخا أن يتركاه يعيش ويأخذا كل شىء. انهالا عليه ضربا من جديد حتى خارت قواه ووجدا حفرة عميقة ألقياه فيها.

كان يئن ويتوسل وهما يهيلان عليه الرمل حتى دفناه. سرقا هاتفه وأربعين جنيها كانت معه وفرا بالسيارة إلى الصعيد. لكن الشرطة توصلت إليهما ودلّا على مكان الجريمة حيث استُخرجت الجثة!

كانت هذه «حكاية جريمة» قرأتها فى «الشروق» يوم الجمعة 30 أبريل الماضى، ولم أستطع نسيان صورة الضحية الشاب الذى تفيض ملامحه بطيبة مؤثرة، واحتفظت بصفحة الجريدة، مقدرا أن هذه الجريمة دليل شديد الخطورة على درجة التشوه التى طالت النفس البشرية بيننا، وهى جرس إنذار من الدرجة القصوى لتغيرات جنونية التوحش فى مصر، ليس فى مجال الإجرام وحده، ولكن فى مناخ الوسط المُنتِج لهذا الإجرام، أى حياتنا المصرية كلها، التى نظل نتجاهل وحشية هوامشها، حتى نستيقظ على هول هذه الوحشية فى متن وجودنا.

لم أكد أبدأ تأملى فى جريمة صحراء أكتوبر، حتى انفجرت فى وجهى كما فى وجوهنا جميعا، مصريين، وعربا، ومسلمين، وبشرا، جريمة القتل والسحل والتمثيل بجثة المصرى محمد مسلّم المتهم بجريمة قتل بشعة راح ضحيتها عجوزان وحفيداتهما الطفلتان، فى قرية «كترمايا» بمنطقة الشوف اللبنانية، والتى تطور اسمها من السريانية «كفر مايه» وهى تعنى «قرية المياه»، فى مفارقة تؤكد أن الوحشية البشرية ليست مشروطة بعطش أو رى، فهى من كوامن الأحراش النفسية التى تنتظر مجرد الفرصة لانطلاق وحشيتها المسعورة.

لم أر جريمة الصحراء المصرية منفصلة عن جريمة قرية الماء اللبنانية، ليس فقط لأن مصريين كانا عاملا مشتركا أساسيا فيهما، لكن لأن عالمنا العربى كالأوانى المستطرقة، ما يحدث فى أحد بلدانه يدل على ما يحدث فى باقى البلدان، كما أن تجاوز الجريمتين لأقصى حدود التخيل السوداوى، يشير حتما إلى عناصر وأصول مشتركة تصنع كل هذا البؤس المروِّع، ويستلزم الكشف عنها تقصيات نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية لجريمتين بهذا الحجم من الفظاعة.

ولأن جريمة كترمايا الجماعية هى الأقرب حدوثا والأسخن حضورا، والأخطر فى تأثيراتها السلبية العابرة للأقطار والمتسللة إلى صدور الشعوب، أراها أوجب بأولوية التناول، دون أى نسيان لجريمة أكتوبر.

بداية، لابد من فضح المحاولات الآثمة لاستثمار جريمة سحل المصرى فى كترمايا لإثارة فتنة مصرية لبنانية، وهو ما سارعت إليه إسرائيل عبر إعلامها المُكمِّل لإجرام آلتها العسكرية الدموية، فربطت بين جريمة التمثيل بالقتيل المصرى وبين الأحكام التى صدرت فى القاهرة ضد لبنانيين فى قضية ما أسموه «خلية حزب الله»، وهو افتراء مفضوح الغايات، فى وقت تهدد فيه إسرائيل كلا من لبنان وسورية، وتسعى لالتهام القدس وتخريب المسجد الأقصى وإحراق غزة من جديد.

قرية كترمايا اللبنانية ليست قرية شيعية كما يوحى البث الإسرائيلى، ولا حتى مسيحية كما يدّعى المتعصبون على شبكة الإنترنت، بل أغلبية سكانها من المسلمين السنة كما المصريين، وممثلها فى البرلمان اللبنانى تابع لزمرة 14 آزار التى يقودها سعد الحريرى خديج «الاعتدال العربى»، والمرحب به كثيرا فى شرم الشيخ، والرياض. فالجريمة أبعد ما تكون عن الطائفية والمذهبية المطلوب إسرائيليا وظلاميا تأجيج صراعاتهما فى عالمنا العربى.

والجريمة ليست شعوبية أيضا، وإن كان بها مسحة التحفز والريبة تجاه الغريب، وهى مسحة نفسية عامة لدى كل الشعوب تجاه الغرباء، ولها جذور عميقة ومشتركة بين الإنسان وحتى الحيوان، وترتبط بغريزة المنافسة على الغذاء والمأوى والتكاثر، كما ترتبط بالحرص الغريزى على حماية خصوصية الحيز الشخصى ومنطقة التواجد والمعاش.

ثم إن كل لغو مثار عن أن الجريمة تحط من كرامة مصر والمصريين، هو تغطية على حقيقة أن الإهانة بدأت وتبدأ من هنا، من الداخل المصرى نفسه، حيث المناخ الفاسد يدفع بمئات آلاف المصريين الشباب، للبحث عن مكان آخر فى العالم غير وطنهم الذى بسبب تراكمات سياسية آثمة، لم يعد يوفر لهم فرصة لحياة كريمة أو طموح مشروع، فنفروا إلى هجرة شرعية أو غير شرعية فى ظاهرة لم تشهدها مصر من قبل، حيث تحصد زوارق الموت الصدئة أرواح أفواج منهم تطويهم أمواج المتوسط بشكل يكاد يكون يوميا، مأساة لا تشبه فى غرابة مأساويتها إلا موجات انتحار الحيتان التى تهرب من أخطار تهدد حياتها فى المياه، فتموت على الشواطئ مختنقة لأن أوزانها الهائلة تعيق حركة أضلاعها، فتنكتم الأنفاس!

وبينما تجد الحيتان المنكوبة بين أنصار الحفاظ على البيئة وجماعات الرفق بالحيوان من يسارع إلى إنقاذها وإعادتها إلى الماء، لا يجد مهاجرو الزوارق الغارقة من المصريين من يمد لهم ولو خشبة للنجاة، وإذا وصلوا إلى الشاطئ الآخر يعيشون كالأشباح، مهددين بالضبط والترحيل إلى بؤسهم الذى هربوا منه، أو تستوعبهم معسكرات إيواء مؤقتة ثبت أن معظمها كان حظائر للماشية والخنازير فى شمال المتوسط!

ثم إنهم فى البلدان العربية، خاصة من فئة المتعطلين والعمالة غير الماهرة، يتحولون إلى أعباء اجتماعية ونفسية وجنائية أحيانا على المجتمعات التى يتواجدون فيها، ولا بد أن ضحية كترمايا المصرى كان واحدا من هؤلاء. وإن كان هذا لا يُسقط حقه فى إدانة وتجريم البشاعة التى لحقت به.

ما حدث فى «كترمايا» يتعلق بحالة الانحطاط العربى الذى يشملنا جميعا، وهو انحطاط نفسى وروحى مرتبط بالانحطاط السياسى والاجتماعى الذى يهمين على عالمنا العربى إلا قليلا، قليلا جدا، وهو أمر يتجاوز كثيرا حدود غريزة الثأر التى عادت باندفاع محموم فى ظل عدالة بطيئة غير ناجزة، وألاعيب قانونية لمحامى الشياطين، وفساد لا يمكن استبعاد وصوله إلى منصات القضاء، لكن ما حدث للمواطن المصرى لم يكن مجرد قتل بزعم القصاص، فقد انتُزع من أيدى الشرطة التى أتت به إلى القرية لاستكمال تحرياتها فى مسرح الجريمة، ثم نُقل إلى المستشفى شبه ميت بعد الاعتداء الجماعى عليه، وتكرر انتزاعه من المستشفى وتمت تعريته إلا من سرواله الداخلى وجواربه، وسُحل بسيارة عبر طرقات القرية المشتعلة بهتافات الانتقام والزغاريد، ثم علقوا الجثة مسلوخة ودامية ومنحورة فى عمود كهرباء، وحولها كانت فلاشات الهواتف النقالة تلمع لتصوير المشهد الخالد، مع تهليلات النصر «الله أكبر. الله أكبر»!

لم يكن هذا ثأرا ولا قصاصا، لكنه انحطاط نفسى بالغ الاتضاع، وخطير الدلالة، ولا يمكن استيعابه إلا فى حضيض مصطلح شاع فى علم النفس الجنائى، هو: البهيمة البشرية human beast، وهو مصطلح ينطبق أيضا وقطعا على قاتلى مصطفى فى صحراء أكتوبر دفنا وهو حى.

الظاهرة خطيرة، ولابد أن فى الثنايا خبايا .. تستحق البحث.

--------------------------------
منقول .. كتبها .. محمد المخزنجي